الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).
.تفسير الآيات (23- 35): {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}{قَالَ إِنَّمَا العلم} بوقت مجيء العذاب {عَندَ الله} ولا علم لي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم {وَأُبَلِّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ} وبالتخفيف: أبو عمرو أي الذي هو شأني أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} أي ولكنكم جاهلون لا تعلمون أن الرسل بعثوا منذرين لا مقترحين ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه. {فَلَمَّا رَأَوْهُ} الضمير يرجع إلى {مَا تَعِدُنَا} أو هو مبهم وضح أمره بقوله {عَارِضاً} إما تمييزاً أو حالاً. والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} رُوي أن المطر قد احتبس عنهم فرأوا سحابة استقبلت أوديتهم فقالوا: هذا سحاب يأتينا بالمطر وأظهروا من ذلك فرحاً. وإضافة {مُّسْتَقْبِلَ} و{ممطر} مجازية غير معرفة بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفاً للنكرة {بَلْ هُوَ} أي قال هود: بل هو، ويدل عليه قراءة من قرأ {قَالَ هُود بَلْ هُوَ} {مَا استعجلتم بِهِ} من العذاب. ثم فسره فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَئ} تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير فعبر عن الكثرة بالكلية {بِأَمْرِ رَبِّهَا} رب الريح {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم} عاصم وحمزة وخلف أي لا يرى شيء إلا مساكنهم. غيرهم {لاَّ ترى إِلاَّ مساكنهم} والخطاب للرائي من كان.{كَذَلِكَ نَجْزِى القوم المجرمين} أي مثل ذلك نجزي من أجرم مثل جرمهم وهو تحذير لمشركي العرب. عن ابن عباس رضي الله عنهما: اعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلذه الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة.{وَلَقَدْ مكناهم فِيمَآ إِن مكناكم فِيهِ} {إن} نافية أي فيما ما مكنا كم فيه إلا أن «إن» أحسن في اللفظ لما في مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع، ألا ترى أن الأصل في «مهما» «ما ما» فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء. وقد جعلت {إن} صلة وتؤول بأنا مكناهم في مثل {مَا إِنَّ مكناكم فِيهِ} [الأحقاف: 26] والوجه هو الأول لقوله تعالى: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئياً} [مريم: 74] {كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً} [غافر: 82] و(ما) بمعنى الذي أو نكرة موصوفة {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً} أي آلات الدرك والفهم {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَئ} أي من شيء من الإغناء وهو القليل منه {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بئايات الله} {إذ} نصب بقوله {فَمَا أغنى} وجرى مجرى التعليل لاستواء مؤدي التعليل والظرف في قولك: ضربته لإساءته وضربته إذ أساء، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه إلا أن (إذ) و(حيث) غلبتا دون سائر الظروف في ذلك {وَحَاقَ بِهِم} ونزل بهم {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} جزاء استهزائهم وهذا تهديد لكفار مكة ثم زادهم تهديداً بقوله:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ} يا أهل مكة {مِّنَ القرى} نحو حجر ثمود وقرى قوم لوط والمراد أهل القرى ولذلك قال: {وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي كررنا عليهم الحجج وأنواع العبر لعلهم يرجعون عن الطغيان إلى الإيمان فلم يرجعوا {فَلَوْلا} فهلا {نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءَالِهَةً} القربان ما تقرب به إلى الله تعالى أي اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله تعالى حيث قالوا {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وأحد مفعولي (اتخذ) الراجع إلى (الذين) محذوف أي اتخذوهم والثاني {ءالِهَةً} و{قُرْبَاناً} حال {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} غابوا عن نصرتهم {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} {وَذَلِكَ} إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم أي وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب.{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً} أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك والنفردون العشرة {مِّن الجن} جن نصيبين {يَسْتَمِعُونَ القرءان} منه عليه الصلاة والسلام {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن أي كانوا منه بحيث يسمعون {قَالُواْ} أي قال بعضهم لبعض {أَنصِتُواْ} اسكتوا مستمعين رُوي أن الجن كانت تسترق السمع، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا: ما هذا إلا لنبأ حدث. فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى منهم زوبعة فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته. وعن سعيد بن جبير: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر فأنبأه الله باستماعهم. وقيل: بل الله أمر رسوله أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفراً منهم فقال: إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ قالها ثلاثاً. فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لم يحضره ليلة الجن أحد غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطاً وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك، ثم اففتح القرآن وسمعت لغطاً شديداً فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل رأيت شيئاً؟ قلت: نعم رجالاً سوداً. فقال: أولئك جن نصيبين».سورة محمد: .تفسير الآيات (1- 16): {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)}{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي أعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام أوصدوا غيرهم عنه. قال الجوهري: صد عنه يصد صدوداً أعرض، وصده عن الأمر صداً منعه وصرفه عنه. وهم المطعمون يوم بدر أو أهل الكتاب أو عام في كل من كفر وصد {أَضَلَّ أعمالهم} أبطلها وأحبطها، وحقيقته جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها كالضالة من الإبل، وأعمالهم ما عملوه في كفرهم من صلة الأرحام وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام، أو ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} هم ناس من قريش أو من الأنصار أو من أهل الكتاب أو عام {وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} وهو القرآن، وتخصيص الإيمان بالمنزل على رسوله من بين ما يجب الإيمان به لتعظيم شأنه، وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية وهي قوله {وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ} أي القرآن. وقيل: إن دين محمد هو الحق إذ لا يرد عليه النسخ وهو ناسخ لغيره {كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد {ذلك بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءَامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ} {ذلك} مبتدأ وما بعده خبره أي ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني والإصلاح كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهو الشيطان وهؤلاء الحق وهو القرآن {كذلك} مثل ذلك الضرب {يَضْرِبُ الله} أي يبين الله {لِلنَّاسِ أمثالهم} والضمير راجع إلى الناس أو إلى المذكورين من الفريقين على معنى أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم، وقد جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكافرين، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين، أو جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز الأبرار.{فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ} من اللقاء وهو الحرب {فَضَرْبَ الرقاب} أصله فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه {وَضَرَبَ الرقاب} عبارة عن القتل لا أن الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء، ولأن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته فوقع عبارة عن القتل وإن ضرب غير رقبته {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم فيهم القتل {فَشُدُّواْ الوثاق} فأسروهم والوثاق بالفتح والكسر اسم ما يوثق به، والمعنى فشدوا وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} أي بعد أن تأسروهم {وَإِمَّآ فِدَاءً} {منَّا} و{فِدَاء} منصوبان بفعليهما مضمرين أي فإما تمنون مناً أو تفدون فداء، والمعنى التخيير بين الأمرين بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم وبين أن يفادوهم، وحكم أسارى المشركين عندنا القتل أو الاسترقاق، والمن والفداء المذكوران في الآية منسوخ بقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] لأن سورة (براءة) من آخر ما نزل. وعن مجاهد: ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق. أو المراد بالمن أن يمن عليهم بترك القتل ويسترقوا، أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وبالفداء أن يفادى بأسراهم أسارى المسلمين فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة رحمه الله وهو قولهما، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره لئلا يعودوا حرباً علينا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى: للإمام أن يختار أحد الأمور الأربعة: القتل والاسترقاق والفداء بأسارى المسلمين والمن.{حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} أثقالها وآلاتها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع. وقيل: أوزارها آثامها يعني حتى يترك أهل الحرب وهم المشركون شركهم بأن يسلموا وحتى لا يخلو من أن يتعلق بالضرب والشد أو بالمن والفداء، فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع المشركين، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة. وقيل: إذا نزل عيسى عليه السلام. وعند أبي حنيفة رحمه الله: إذا علق بالضرب والشد فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين. وإذا علق بالمن والفداء فالمعنى أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل {ذلك} أي الأمر ذلك فهو مبتدأ وخبر أو افعلوا بهم ذلك فهو في محل النصب {وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} لانتقم منهم بغير قتال ببعض أسباب الهلاك كالخسف أو الرجفة أو غير ذلك {ولكن} أمركم بالقتال {لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي المؤمنين بالكافرين تمحيصاً للمؤمنين وتمحيقاً للكافرين {والذين قُتِلُواْ} بصري وحفص. {قَاتَلُواْ} غيرهم {فِى سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أعمالهم سَيَهْدِيهِمْ} إلى طريق الجنة أو إلى الصواب في جواب منكر ونكير {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} يرضى خصماءهم ويقبل أعمالهم {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} عن مجاهد: عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يحتاجون أن يسألوا أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة. {يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله} أي دين الله ورسوله {يَنصُرْكُمْ} على عدوكم ويفتح لكم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام {والذين كَفَرُواْ} في موضع رفع بالابتداء والخبر {فَتَعْساً لَّهُمْ} وعطف قوله {وَأَضَلَّ أعمالهم} على الفعل الذي نصب {تعسا} لأن المعنى فقال تعساً لهم والتعس العثور.وعن ابن عباس رضي الله عنهما: يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار. {ذلك} أي التعس والضلال {بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله} أي القرآن {فَأَحْبَطَ أعمالهم أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض} يعني كفار أمتك {فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} أهلكهم هلاك استئصال {وللكافرين} مشركي قريش {أمثالها} أمثال تلك الهلكة لأن التدمير يدل عليها {ذلك} أي نصر المؤمنين وسوء عاقبة الكافرين {أَنَّ الله مَوْلَى الذين ءَامَنُواْ} وليهم وناصرهم {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} أي لا ناصر لهم فإن الله مولى العباد جميعاً من جهة الاختراع وملك التصرف فيهم، ومولى المؤمنين خاصة من جهة النصرة {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ} ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياماً قلائل {وَيَأْكُلُونَ} غافلين غير متفكرين في العاقبة {كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} في معالفها ومسارحها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} منزل ومقام.{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} أي وكم من قرية للتكثير وأراد بالقرية أهلها ولذلك قال: {أهلكناهم} {هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} أي وكم من قرية أشد قوة من قومك الذين أخرجوك أي كانوا سبب خروجك {أهلكناهم فَلاَ ناصر لَهُمْ} أي فلم يكن لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبّهِ} أي على حجة من عنده وبرهان وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله. وقال سوء عمله {واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} للحمل على لفظ من ومعناه {مَّثَلُ الجنة} صفة الجنة العجيبة الشأن {التى وُعِدَ المتقون} عن الشرك {فِيهَآ أَنْهَارٌ} داخل في حكم الصلة كالتكرير لها ألا ترى إلى صحة قولك التي فيها أنهار، أو حال أي مستقرة فيها أنهار {مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ} غير متغير اللون والريح والطعم. يقال: أسن الماء إذا تغير طعمه وريحه {أسِن} مكي {وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة وغيرها {وأنهار مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ} تأنيث لذ وهو اللذيذ {لِّلشَّارِبِينَ} أي ما هو إلا التلذذ الخالص ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ولا آفة من آفات الخمر {وأنهار مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبِّهِمْ} {مَثَلُ} مبتدأ خبره {كَمَنْ هُوَ خالد في النار وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً} حاراً في النهاية {فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} والتقدير: أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار؟ وهو كلام في صورة الإثبات ومعناه النفي لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ودخوله في حيزه وهو قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ}.وفائدة حذف حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار وبين النار التي يسقى أهلها الحميم. {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ ءَانِفاً} هم المنافقون كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالاً تهاوناً منهم، فإذا خرجوا قالوا لأولي العلم من الصحابة: ماذا قال الساعة على جهة الاستهزاء {أُوْلَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ}.
|